لم أر يقيناً أشبه بالشك كيقين الناس بالموت

ذه الملاحظـة الدقيقـة صدرت من في الخليفة الراشـد، والإمام العـادل، والعبد الصـالح، عمر بن عبد العزيز رحمه الله حيث قال: “لم أر يقينا أشبه بالشك كيقين الناس بالموت”، ثم علل ذلك بأنهم:”موقنون أنه حق ولكن لايعملون له” أوكما قال، لأن الإيمان قول، وعمل، واعتقاد، ولهذا قال الإمام الحسن البصري رحمه الله: ليس الإيمان بالتمني، ولا بالتحلي، ولكن ماوقر في القلب وصدقه العمل؛ وعندما قال له  الحطيئة: أليست “لا إله إلاالله” مفتاح الجنة؟ فهم مراده ومقصوده فقال له: إن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلاَ فلا.

قضية الإيمان واليقين هي القضية الأساس في هذا الدين، ولهذا جلس الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشرة سنة ليس له شغل إلاَ تثبيت وترسيخ أمر العقيدة، واكتفى القرآن المكي بمعالجة هذا الأمر ولم ترد التشريعات إلا بعد الهجرة في القرآن المدني.

إن كان عمر قال هذه الكلمة مخاطبا بها قرنه وهو قرن التابعين ومن القرون الفاضلة، فما عساه قائلاً لو رأى ما عليه المسلمون اليوم؟ حيث أضحى إيمانهم إيمانا نظريا يخالطه الشك، ويشوبه الجدل والمرآء، ويشاركه الهوى.

كل منا يشهد أن الموت حق، وأن النار حق، وأن الجنة حق، وأن البعث بعد الموت حق، ونحو ذلك، ولكن لا أثر لهذه الشهادة لا في عبادتنا، ولا في سلوكنا حيث يكذب عملُنا قولَنا، ويخالفُ باطنُنا ظاهرَنا.

كان بعض السلف إذا شهد جنازة لا ينتفع به لمدة ثلاثة أيام، ورأى ابن مسعود رجلاًًًًًًًًًًًًً يضحك وهو مشيع لجنازة، فقال له: أتضحك في هذا الموقف؟! والله لا أكلمك ابداً.وكان سفيان الثوري يبول الدم من شدة خوفه، وكانت مجالس الإمام أحمد كما حكى عنه تلميذه الإمام أبو داود: مجالس الآخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا قط.

أما مجالسنا نحن اليوم فهي مجالس الدنيا، ونادراً أن يذكر في غالبها شيء من أمر الآخرة، وحالنا عند تشييع الجنائز، وزيارتنا للقبور، التي شرعت للتذكير بالآخرة ضحك، وغيبة، وتشاغل، وفي أحسن أحوال كثير منا الإتيان ببدعة، نحو التهليل والتكبير، أوقراءة شيء من المنكرات، ولله در ابن عمر عندما سمع أحد المشيعين يقول: استغفروا للميت يغفر الله لكم! أنكرعليه قائلاً: “اسكت لاغفر الله لك، ما بهذا أمِرنا ولاهكذا كنا نفعل”.

فكثير منا ينقض إسلامه في اليوم الواحد بضع مرات بدعاء واستغاثة غير الله من الأموات والأحياء، أوبنفي أوإثبات ما هو معلوم من الدين ضرورة، أوبموالاة الكافرين، والتبرء ومعاداة المؤمنين، ومنا من يترك الواجبات ويتهاون فيها، وبعضنا يقترف الكبائر وينغمس فيها صباح مساء، ولا يشعر أحد منا إلا من رحم ربك بأنه سلب إسلامه، أوارتكب منكراً من القول وزوراً.

لو حققنا إيماننا، وأسلمنا أمرنا لربنا، وأيقنا بصدق رسولنا، وأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى، لما فعل أحدنا شيئاً من ذلك ولا دون ذلك.

فالذي يتخذ مع الله نداً أوشريكاً يصرف إليه شيئاً من العبادة، جليلة كانت أم قليلة، فإيمانه بالله، والرسول، وبالجنة، والنار، والموت، ونحو ذلك، أشبه بالشك أوهو بَيِّن الشك، وكذلك الحاكم الذي يحكم الرعية بغير شرع الله، ويستبدل ذلك بالدساتير والقوانين الوضعية، وكذلك المسلم الذي يوالي الكفار بالعمل في منظماتهم، والتجسس لصالحهم، ويعادي المسلمين.

وقل مثل ذلك في:

  • المرابين التعساء الأشقياء.
  • والفنانين، والمسيقيين، والممثلين البؤساء.
  • والنساء الكاسيات، العاريات، الملعونات، اللائي لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها.
  • والمجادلين والرادِّين لما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  • والمبتدعين في دين الله من العبادات ما لم ينزل به سلطاناً.
  • والآكلين لأموال اليتامى بالظلم والعدوان.
  • والمنتهكين لحقوق إخوانهم المسلمين.
  • والمقترفين للفواحش والمنكرات.
  • والغاشين في البيع والشراء وسائر المعاملات.
  • والعاقين لآبائهم والقاطعين لأرحامهم وذويهم.
  • والتاركين المتهاونين في الواجبات، المتجاسرين على المحرمات، وغير المبالين بالشبه والمكروهات.

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن” الحديث، على الرغم من أن إيمانه لم يسلب بالكلية، ولكنه ضعف ضعفاً شديداً بحيث لم يَحُل بينه وبين إرتكاب هذه المحرمات، واقتراف هذه القاذورات، وقد شبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الإيمان في هذه الحال بالمظلة التي لها صلة ما بحاملها.

فعلينا جميعاً أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، وأن نزن أعمالنا قبل أن توزن علينا، وأن نتزين ليوم العرض الأكبر كما قال عمر، وأن نستعد للموت فهو آتٍ، وكل آتٍ قريب، ولنحذر أشد الحذر الأدواء المضلة، والأمراض المذلة: طول الأمل، وحب الدنيا، وكراهية الموت، واعلم أن الدنيا مطية الآخرة ومزرعتها، وأنها ليست بدار قرار، ولا تدوم على حال.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

 

أيها المسلمون المساجد هي بيوت الله في الأرض فاعرفوا لها قدرها

زخرفة المساجد وتزيينها

من الأمور التي ينبغي أن يحرص عليها عند بناء المسجد ما يأتي

أمور ينبغي أن تصان منها المساجد

 

المساجد هي بيوت الله عز وجل، وقد أضافها الله عز وجل إلى نفسه إضافة تعظيم وتشريف، فقال: “وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً”1 ، وهي أحب البقاع إليه، فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أحب البلاد إلى الله مساجدها”.

ولهذا أوجب علينا تشييدها، وعمارتها، وصيانتها، وإكرامها عن كل ما لا يليق بها ويناسب شرفها، فقال: “في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب”.2

كان أول عمل قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن وطئت قدماه الشريفتان دار هجرته المدينة هو بناء مسجده الذي أسس على التقوى من أول يوم، فكان المسجد هو الركيزة الأولى واللبنة الأساس في تكوين المجتمع المسلم، حيث لم يكن قاصراً على إقامة الصلوات والدروس العلمية، بل سائر نشاط المسلمين، من جهادي، وسياسي، واجتماعي، ونحوه كان منطلقه من المسجد.

وظل هذا الحال مستمراً في عهد الخلافة الراشدة وما بعدها، حتى غشيت المسلمين عصور الظلام والجهل، فاقتصرت رسالة المسجد على أداء الصلاة، وفي أحسن الأحوال إقامة الدروس، بينما نجد النواة الأولى للجامعات الإسلامية العريقة في عواصم العالم ومدنه الكبرى مثل المدينة، ومكة، وبغداد، ودمشق، والقاهرة، والقيروان، وغيرها كانت في المسجد.

لقد حث رسول الإسلام وحض على بناء المساجد، ووعد مشيديها بالثواب الجزيل والأجر العظيم، لمكانتها في الإسلام، وحاجة المسلمين إليها في سائر البلاد والأزمان، فقال صلى الله عليه وسلم: “من بنى لله مسجداً ولو كمَفحَص3 قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة”.4

هذا الأجر العظيم والثواب الجزيل مشروط بشرطين كسائر الطاعات، هما:

  1. أن يبتغي بذلك وجه الله، كما جاء في إحدى روايات الحديث: “يبتغي به وجه الله”.
  2. أن يبنيه بمال حلال طيب.

لأن الله سبحانه وتعالى طيب لا يقبل إلا طيباً.

لهذا قال ابن الجوزي رحمه الله: (من كتب اسمه على المسجد بناه فهو بعيد عن الإخلاص).

قال الزركشي رحمه الله: (خصَّ القطاة بالذكر دون غيرها لأن العرب تضرب به المثل في الصدق، ففيه رمز على المحافظة على الإخلاص في بنائه والصدق في إنشائه).

زخرفة المساجد وتزيينها

لقد أمر الشارع ببناء المساجد وبتشييدها وتعميرها، ولكنه نهى عن المبالغة في زخرفتها.

عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد”.5

وروي عنه أنه قال: “إذا زخرفتم مساجدكم، وحليتم مصاحفكم، فالدبار عليكم”.

وعن ابن عباس رضي الله عنه: “لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى، ثم لا تعمرونها إلا قليلاً”.

وكتب عمر رضي الله عنه لأحد عماله: “ابن لهم ما يكنهم الحر والبرد، وإياك أن تحمِّر وتصفِّر فتفتن الناس”.

قال القرطبي رحمه الله: (إذا قلنا إن المراد بنيانها فهل تزين وتنقش؟ اختلف في ذلك، فكرهه قوم وأباحه آخرون.

ثم ذكر بعض الآثار السابقة التي تنهى عن الزخرفة.

وقال: احتج من أباح ذلك بأن فيه تعظيم المساجد، والله تعالى أمر بتعظيمها في قوله: “في بيوت أذن الله أن ترفع”، يعني تعظم، وروي عن عثمان أنه بنى مسجد النبي بالساج وحسنه، وقال أبو حنيفة: لا بأس بنقش المساجد بماء الذهب، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه نقش مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبالغ في عمارته وتزيينه، وذلك في زمن ولايته، وذكِرَ أن الوليد بن عبد الملك أنفق في عمارة مسجد دمشق وفي تزيينه مثل خراج الشام ثلاث مرات، وروي أن سليمان بن داود عليهما السلام بنى مسجد بيت المقدس وبالغ في تزيينه).6

قلت: الآثار التي تنهى عن المبالغة عن زخرفة المساجد وتزيينها أحق بالاتباع، والمهم كما قال عمر: أن يكون المسجد واسعاً يقي الناس الحر والبرد والمطر، ولا مانع من الزخرفة والتزين غير المبالغ فيهما من باب تعظيم شعائر الله وإكرام بيوته في الأرض.

من الأمور التي ينبغي أن يحرص عليها عند بناء المسجد ما يأتي

  1. أن تكون المحلة، أوالحارة، أوالقرية، أوالحي في حاجة إلى مسجد، حيث نلاحظ كثرة المساجد في بعض الأحياء، وندرتها أوعدمها في أماكن أخرى هي في أمس الحاجة إليها.
  2. الحرص أن يكون للمسجد وقف ثابت بقدر المستطاع يستفاد من ريعه في صيانته وتجهيز ما يحتاجه من فرش ونحوه.
  3. الاهتمام بدورات المياه والمواضئ والعناية بنظافتها وتهيئتها.
  4. توفير الماء، سواء كان بحفر بئر أوعمل خزانات ونحو ذلك.
  5. اختيار إمام كفء مقتدر، وأن لا تكون الإمامة خاضعة للأهواء أوأن تورث.
  6. اختيار مؤذن وعمال لحراسة المسجد ونظافته ممن يقدرون المسجد قدره.
  7. تشجير المسجد.
  8. تنظيفه وتجميره.
  9. الاهتمام بتهوية المسجد وتكييفه إن أمكن ذلك.

أمور ينبغي أن تصان منها المساجد

إنما بنيت المساجد لذكر الله، ولإقامة الصلاة، ولتعليم الناس أمور دينهم، ولهذا لابد أن تصان من بعض الأمور التي لا تليق ولا تناسب الأغراض التي بنيت المساجد من أجلها.

سنشير في هذه العجالة إلى أهم تِلك الأمور، وهي:

  1. لا يُقبَر في المسجد أحد، لا أمام القبلة ولا في الجهات الأخرى، مهما كان الموصي بذلك، فلا تنفذ وصيته، ولو كان الذي بناه، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك: “لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد”7، وقال: “إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد”.8
  2. إنشاد الضوالِّ في المسجد.
  3. أن يتخذ المسجد مكاناً للإعلانات عن الأفراح والأتراح.
  4. الصخب ورفع الصوت في المسجد، إلا في العلم، وقد كره مالك أن يرفع الصوت في المسجد ولو كان في حلقة علم.
  5. تجنيبه الروائح الكريهة.
  6. البيع والشراء ولو في رحاب المسجد، ولو عن طريق الجوالات.
  7. دخول الكفار، حيث أصبحت المساجد الأثرية في بعض البلاد أماكن يرتادها السواح الكفار والنساء العاريات.
  8. لا يشهر فيه سلاح.
  9. لا يقام فيه حد من حدود الله عز وجل.
  10. لا يتخذ مسكناً دائماً اللهم إلا لغريب أومحتاج، مع مراعاة الآداب المتعلقة به.
  11. يجنب السماع الصوفي، وعمل الموالد والحوليات.
  12. يجنب المجانين والأطفال إلا إذا كانوا بصحبة آبائهم وذويهم.
  13. إنشاد الأشعار الماجنة أوالتي فيها هجاء ونحوها.
  14. لا تمارس فيه أي حرفة من الحرف ممن يقيمون فيه ولا غيرهم.
  15. تعليق لوحات ولو كان فيها آيات وأحاديث، إلى جهة القبلة خاصة.
  16. إيقاف الأجراس في الساعات الحائطية التي تعلق بالمساجد.
  17. الأوساخ، والقاذوات، والمخاط، والبزاق، وما شاكل ذلك، فهي من الخطايا العظيمة في المسجد.
  18. الحرص على أخذ الزينة في المساجد، وتجنب الثياب المتسخة ذات الروائح الكريهة.
  19. لبس ما فيه صورة من الثياب، ولبس الملابس التي تصف العورة أوتكشفها.
  20. التجمر بحيطان المسجد، أوالبول والتغوط حول أسواره، وكذلك النهي عن الحجامة والفَصْد فيه.
  21. تعليم الصبيان غير المميزين، والأفضل أن يكون ذلك في ملحقات بالمسجد

 

والله أسأل أن يعيننا على تعظيم حرمات الله وتقدير شعائره، وأن يرزقنا الأدب في بيوته ومساجده.